كيف غيرت مهمة لدعم اللاجئين رؤيتي للحياة

يناير 19, 2021

في بدايات الألفية، أذكر أنني حضرت عرضا في مقر عملي بمدينة جدة قدمته بعض طالبات جامعة دار الحكمة عن رحلتهن للنيجر لتقديم المساعدات الإنسانية لتخفيف حدة آثار المجاعة التي ضربت البلاد في ذاك الوقت. أذكر أنني تأثرت كثيراً. شعرت لأي درجة كانت تلك الفتيات محظوظات بفرصة إحداث تغيير وترك أثر بهذا العمق. ذاك الوقت كنت في بداية العشرينيات من عمري، مازلت أخطو أولى خطواتي العملية ولدي طفل لم يبلغ بعد الثانية من عمره.

بعد تأثري هذا أخذتني الحياة و ألهتني ما بين عملي وأسرتي ثم لاحقا سفري لتحصيل الماجستير والدكتوراة. لا أقول بأنني نسيت رغبتي الأصيلة بمساعدة الآخرين وإحداث أثر، إلا أنني كنت أكتفي بالأعمال البسيطة التي كان يسمح بها وقتي.

حين دخلت عالم التواصل الاجتماعي وتحديدا بعد الشهرة التي حققها برنامج نون النسوة اليوتيوبي، بدأت تلح علي فكرة استغلال هذا الصيت فيما ينفع الآخرين. إذ أني بدأت أشعر بأن الشهرة وذيوع الصيت مسؤولية قبل أن تكون ميزة، وزكاة هذه الميزات هو استغلالها في أعمال خيرية وإنسانية متعدية الأثر ومحفزة للآخرين. ورغم مشاركتي ومساهمتي بالأنشطة في مناسبات محلية لجمعيات خيرية كنت أشعر بأن هناك ماهو أكثر لا يزال علي تقديمه.

وظلت هذه الأفكار حبيسة عقلي الباطن إلى ان قابلت شهد ومحمد من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين خلال فعاليات منتدى الإعلام العربي بدبي سنة ٢٠١٤.

المساهمة في العمل المجتمعي مهم جدا لكل شخص مشهورا كان أم غير مشهور، إلا أنني لم أكن أستطيع منع نفسي من الرغبة في عمل أكبر أثرا.

لقد عرضوا علي الانضمام لكوكبة الداعمين لبرامج المفوضية للتعريف بقضايا اللاجئين والمساهمة في حملات التبرعات الخاصة بهم والتي تتضمن زيارات ميدانية لهم للتعريف بوضعهم ونقله للمتابعين. شعرت وقتها بأنه (نعم نعم، هذا ما كنت أبحث عنه) وأبلغتهم بموافقتي على كل ما يطلبونه مني بدون تردد.

وكانت تلك بداية رحلتي مع اللاجئين…

أول زيارة ميدانية لي كانت لمخيمات اللاجئين السوريين بالأردن في عام ٢٠١٦ مع كوكبة من مشاهير التواصل الاجتماعي، تجمعنا حداثة التجربة والرغبة الأصيلة بإحداث أثر. وقد انضممت أنا للمجموعة التي زارت مخيم الأزرق.

دخلت المخيم دون أي توقعات، فماذا عساي أجد؟ لقد ولدت وعشت طوال عمري في بلدي، لم أذق يوما طعم الخوف أو الاضطرار لترك وطني لأي سبب. فكيف سأقابل أشخاصا تعرضوا لصدمات وويلات الحرب وبعضهم خسر كل شئ؟ بدأت بزيارة المستشفى الميداني لزيارة الأمهات الجدد والمواليد. دخلت جناح الأمهات وبدأت بالسلام عليهن والتعرف على أطفالهن وأبنائهن. لم أملك سوى أن أقول سبحان الله. رغم ألم التجربة وصعوبة الغربة، إلا أن الحياة تستمر. لعلها غريزة البقاء والقدرة على التكيف التي تميز البشر، ربما.

أستطيع القول بأنني مشاعري كانت مختلطة ومتناقضة في آن واحد. أنا سعيدة لأن سكان المخيم يتكيفون مع الوضع ويحاولون صنع الأفضل ضمن إمكانياتهم المحدودة. وهذا باعث على الأمل، لكنهم  لاجئون في غربة قسرية. لماذا على أحد أن يضطر لترك بيته ووطنه ويتشرد؟

رغم كل المشاعر المختلطة إلا أنني خرجت من التجربة بأشياء إيجابية جعلتني أكثر رغبة بالتعريف بقضايا اللاجئين وحث الآخرين على مساعدتهم.

دخلت المخيم دون أي توقعات، فماذا عساي أجد؟ لقد ولدت وعشت طوال عمري في بلدي، لم أذق يوما طعم الخوف أو الاضطرار لترك وطني لأي سبب. فكيف سأقابل أشخاصا تعرضوا لصدمات وويلات الحرب وبعضهم خسر كل شئ؟

حتى جاءت زيارة اللاجئين الروهينغا في بنغلاديش…

كوني من سكان مدينة مكة المكرّمة، فأنا بطبيعة الحال ملمة لحد ما بقضية مسلمي بورما وما عانوا منه من حملات تطهير عرقي على مدى عقود، مما جعل المملكة العربية السعودية تفتح أبوابها لهم منذ حوالي ٤٠ سنة ليعيشوا على أرضها حماية لهم من القتل والتعذيب.

إلا أنني لم أعي حجم المشكلة وكيف أنها مستمرة.

وإذا كانت مشاعري وقت زيارة اللاجئين السوريين بالأردن مختلطة ما بين الحزن على حالهم والارتياح لأنهم لازالوا مفعمين بالأمل، إلا أن الوضع كان مختلفا كلياً مع اللاجئين الروهينغا.

عيونهم كانت فارغة من أي أمل أو تطلع.

غالبيتهم مروا بتجارب مرعبة من قتل وذبح لأهلهم أمام أعينهم، لمجاعات عانوا منها خلال طريق هروبهم. بعضهم اضطر لأكل أوراق الشجر حتى لا يموت جوعا. سمعت عن مآس وأهوال ما كنت أعلم عن وجودها. اكتشفت خلالها شعورا بشرياً جديداً، أسميته شعور الخواء. هذا الخواء الذي لمسته عندهم يجعلهم أحياء لكن بدون حياة. فكيف يشعر من يعيش في مخيم في أرض غريبة وبعض مواقع هذا المخيم معرضة للانهيار بسبب الظروف الطبيعية وبسبب طبيعة الأرض الرخوة؟

واجهنا الكثير من الصعوبات في التنقل بين أجزاء المخيم. المرتفعات والمنحدرات قد تكون خطرة، ورغم وجود شبكة تصريف صحي إلا أن الاكتظاظ كان يجعلها غير فعالة في بعض أجزاء المخيم. تخيل أن تكون المجاري ممرّاً لمنزلك؟ تخيل أن تضطر يوميا لخوض الوحل وصعود هضاب لتجلب طعامك؟ تخيل أن لا يكون لديك أدنى أمل لإنهاء مأساتك؟

غيرتني هذه الرحلة تماما. وإذا كنت قبلها أرى بأن من واجبي الدفاع عن قضايا اللاجئين والتعريف بها، فبعد هذا الرحلة تضاعف هذا الإحساس

وشعرت بأن الدنيا فعليا لا تستحق. فماذا بعد أن يخسر الإنسان كل شيء؟ لن أنسى ما حييت نظرات الخواء تلك، وأراها دافعا لأتبنى قضايا اللاجئين أكثر.

ما رأيته ولمسته من تفاني موظفي المفوضية كان هو الشمعة المضيئة وسط كل الظلام. نعم الوضع مأساوي، نعم ما كان يجب أن يحصل هذا، ولكنه حصل وسخر الله لهؤلاء من يقوم عليهم بكل إخلاص وحب.

والآن وفصل الشتاء قد حل، لا خيار لدينا أفضل من الإحسان. لا شئ ألطف من دفء تقدمه لمن يحتاجه. قد لا يكلفك الكثير ولكنه قد يعني ليال دافئة منعمة لمن حُرم من المأوى ومن الدفء دون أن يختار.

أنا اخترت أن أدعم اللاجئين دائما.