طفولة ضائعة، وأطفال يكبرون قبل الأوان

أبريل 14, 2021

بعض اللحظات في الحياة ستغيّرك.

لكل شخص منّا هناك ثوانٍ فارقة في حياته، كأول يوم في المدرسة، أو عند اللقاء مع شريك حياته لأول مرة، أو لحظة القبول في أوّل وظيفة.

أمّا أنا، فسأخبركم عن تلك اللحظة الفارقة التي قمت بها بزيارة ميدانية للاجئين ضمن عملي في المفوضية. قبل انضمامي للعمل هذا، كنت أرى بأن الحياة بلا معنى أو هدف، وهو شعور رافقني منذ بداية العشرينات من عمري نتيجة سنوات من الخسارة.

لكن تغيّر كل شيء بعد لقائي بطفلة تُدعى “ياسمين”.

كجزء من عملي في المفوضية، أتولّى توفير منصّة للأسر اللاجئة لمشاركة قصصهم ولإسماع أصواتهم. لم يكن أمراً اعتيادياً لي أن أستمع لقصص المعاناة تلك، أو أن ألقى هذه الحفاوة في الاستقبال والترحيب من أسر تفتح لي أبوابها وقلوبها، وتعيدني إلى بيتي محمّلة بدروس وعِبَر عن الحياة سترافقني طوال عمري.

لقد تركت إحدى القصص أثراً كبيراً فيّ بشكل خاص ولا يمكنني نسيانها، عن أمّ لطفلتين كانت قد ترمّلت حديثاً. اسمها “سارة”.” لقد كانت قصّتهم متشابهة مع قصص غيرهم الكثير من الأسر اللاجئة التي نزورها والتي تعيش في ظروف صعبة وسط الفقر والخوف من قادم الأيام. وكانت سارة قد أجبِرت على الفرار من الحرب في سوريا إلى لبنان بحثاً عن الأمان بعد ان فقدت عائلتها، وثمّ التقت بشريك حياتها الذي تزوّجته وأنجبا طفلتين. لكن سعادتها لم تدم طويلاً إذ توفّي زوجها بشكل مفاجئ بعد عدّة سنوات.

عندما دخلت منزل سارة، شعرت بالصدمة والدهشة كيف أن هذه الأم استطاعت أن تبني مأواها من العدم. بيت من غرفة واحدة بلا جدران مطليّة أو سجّادة لتحفظ حرارة الغرفة. وبدل لمبة الإنارة، علّقت حبلاً من السقف وربطت به كرسياً كي يصبح أرجوحة لطفلتيها.

جلست على منضدة على الأرض أستمع بصمت حزين لقصّتها، وأراقب تعابير وجهها. كانت عيناها تبوحان بشوقها لزوجها، وتحاول أن تخفي دموع حسرتها أمام طفلتيها.

ثم جاءت الصغيرة ياسمين وهي تضحك وجلست قربي وسألتني:

“معك تلفون؟”

فأجبتها بنعم بشكل طبيعي وسألتها: “هل تريدي ان تلعبي لعبة عليه؟” فهذا ما نتوقّعه عادة من أي طفل.

قالت: “لا، بدّي أحكي أبي، راح عالجنّة.”

هناك أطفال يكبرون قبل الأوان بسبب المآسي، وياسمين هذه إحداهم. وإن كانت ظرافتها ترسم براءة سؤالها، لكنها كانت تدرك أن والدها لم يعد هناك وأرادت أن تواسي أمها بعد أن لاحظت الدموع المخنوقة في عينيها. قد تغفل معنى أن تكون لاجئة، لكنه واقع تعيشه وتتفاعل معه.

قد لا تعرف الآن معنى أنها تخسر جزءاً من طفولتها، لكنها بعمر الـ5 سنوات، تدرك معنى الجوع أو الحزن أو الخوف…

لدى مغادرتنا، شكرت سارة المفوضية على دعمها قائلةً بأن مبلغ المساعدة المالية الذي تتلقّاه يعينها على حماية طفلتيها وتوفير احتياجاتهما.

ثم اقتربت ياسمين مني وعانقتني قائلةً: “تعي مرّة تانية.”

لم أستطع نسيان تلك الزيارة وتفاصيلها طوال ذلك اليوم… وأثرها فيّ لا يزال مستمرّاً حتى هذه اللحظة.

هؤلاء الأمهات اللاجئات، مثل سارة، اللواتي تتولّين إعالة أطفالهن بمفردهن وبناء مستقبل أفضل لهم، تستحققن الدعم، بل واجب علينا جميعاً ان نقف سنداً لهنّ. كثيرات منهنّ تُجبرن على أخذ قرارات صعبة كل يوم، بين شراء رغيف الخبز أو الدواء أو ادّخار بعض الدراهم لدفع إيجار المأوى الذي يمنحهنّ الستر والأمان.

وأولئك الأطفال مثل ياسمين، يستحقّون أن يحظوا بطفولة هادئة يجدون فيها الفرصة للعب والتعلّم لبناء غدٍ أفضل. لا ينغي أن يكبروا قبل أوانهم على هموم الخسارة والحزن والجوع والخوف والحرمان…

لقد غيّرت تلك الزيارة من فهمي للحياة، عندها قررت أنني أريد تكريس كل شيء لتخفيف معاناة الآخرين بأي طريقة ممكنة.

معاً، بإمكاننا أن نحقّق الكثير، سواء كنّا عاملين في المفوضية أو حكومات أو مؤسسات القطاع الخاص، علينا حماية الآلاف من الأسر اللاجئة والنازحة كأسرة سارة وياسمين ومساعدتهم على تأمين احتياجاتهم الأساسية  من مأوى وطعام ودواء وتعليم. كل ثانية عطاء وإحسان من شانها ان تصنع الفارق في حياتهم بين الأمل والخوف.

وفي هذه الأيام الفضيلة بشكل خاص، كل ثانية تحمل معها بركات لا تُحصى، ويمكننا مشاركتها مع الأسر الأكثر احتياجاً. فشهر رمضان هو شهر الخير الذي ينتظره ملايين المحتاجين حول العالم كي ينعموا ببركاته، وهذا العام، ستحتاجون لثوانٍ قليلة لتقدّموا دعمكم لأسرة لاجئة أو نازحة من الأكثر عوزاً كأسرة سارة فتدعموا صبرهم وتعيدوا الأمل إلى عيون أطفالهم.

 

تيري ع.م 

فريق أصوات مع اللاجئين

ملاحظة: لأسباب تتعلق بالحماية، تم تغيير الأسماغء والصور المذكةرة في هذا المقال.