حكايتي مع هدى المبتسمة و سهام الخجولة

يناير 28, 2021

المكان: البقاع.

الزمان: الأشهر الأولى من شتاء بارد. ولكن يبدو بأن الشمس لا تنفكّ تقمعه حتى الآن.

المهمة: زيارة هدى المبتسمة وسهام الخجولة.

“أهلا ست دلال أهلا. نوّرتِ. تفضلي. شو بدنا نضيّفك؟”

“ولا شي والله. شوفتكن مكفّاية وموفّاية…”

“حبيبتي. ما بصير هيك. كباية عصير، شاي…”

وتكرّ سبحة عبارات الدعوة يقابلها التمنّع المؤدّب ومن بعد الإصرار ومن ثم التذكير بأن أهل البيت هم الكفاية إلى أن يستكين البال في الترحاب ونقعد ونشرع بالإطمئنان على الأحوال.

ومن الأحوال ما أدمى قلبي وشحّ كلامي.

هدى وسهام لاجئتان سوريّتان هربتا من سوريا عقب الحرب، ولجأتا إلى لبنان مع عائلتهما تعيلانهما بدون زوج وأب.

قمت بزيارة كلّ منهما في ذلك اليوم وأنا في مهمة تصوير لفيديو يلقي الضوء على أحوال اللاجئين في لبنان وينقل همومهم مع قدوم فصل الشتاء الذي يوجس قلبهم قلقاً وخوفاً على حياة عائلاتهم. هذا لما يأتي به الشتاء من بردٍ مُجحف لا تتحمّله أجساد كهيلة مُتعبة أصلاً، ولا خيم جُعلت من شوادر  هزيلة وخشب خاوٍ،  ولا  بال مُهلك من قلق مستمرّ على ما ستأتي به الحياة بعد.

هدى اختارت أن تكون مبتسمة على الدوام. إكتشفت بعد التجربة بأن الحزن والتحسّر على الحال لم يغيّر أمراً في واقعها كأمّ أرملة لثلاثة أولاد، تضطر للعمل في مواسم الزراعة هنا وهناك لتطعم وتعيل. فقرّرت أن تختار القبول والتسليم، فالفرح بأقلّ النعم. تقول لي “منذ أن بدأت أضحك لم أعد مهمومة وأصبحت الأوجاع في جسمي عابرة.”

سهام تميل إلى الصمت وقلّة العبارة. تنتظر السؤال لكي تشارك في حديث. وتحصر كلامها في إعطاء التعليمات لابنتها على كيفيّة طيّ الثياب وتنسيقها وترتيبها بحسب الألوان والنوع.

هدى تختار الوشاح الأزق الفاتح، والبطانيات زهرية اللون، والتداخلات في الأنساق والأحجام في خيمتها.

سهام تحبّ الخطوط المستقيمة وتحرص على أن يبقى طقم كبايات البلاستيك مصفوفاً كباية جنب كباية، تماماً كالصحون العديدة التي تحلم بأن تمتلىء يوماً من الشهي والفاخر لأولادها السبعة.

العشاء اليوم بطاطا مسلوقة وخضار هزيلة الشكل.

هدى تنظر إليك حين تتحدّث. سهام تسهو في الأرضيّة المتشقّقة.

غير أن لهدى وسهام قاسٌم مشترك: هما مُجبرتان على أن تتخذان يوميّاً قراراً يتعلّق ببقائهما و عائلاتهما على قيد الحياة.

أظهرت الدراسة التقييمية حول نقاط الضعف لدى اللاجئين السوريين في لبنان لعام 2020 بأن تسعة من أصل عشرة أُسر لاجئة في لبنان باتوا يعيشون الآن تحت خطّ الفقر المدقع، أي بحوالي 300 ألف ليرة لبنانية تقريباً للفرد الواحد في الشهر.

أي ما يقارب 90% من اللاجئين بعد أن كانوا 55% العام الماضي فقط!

إقرؤوا معي معنى الأرقام من جديد: تقريباً كلّ اللاجئين في لبنان يعيشون بألف ليرة في اليوم الواحد.

يعني بالنسبة لهدى وسهام، تقرّران قسراً  في بداية كلّ يوم علامَ تصرفان الليرات الشحيحة بين يديهما: ألِشراء ربطة الخبز أو كيلو البطاطا أو الملح أو السكر أو العدس أو الرز أو الزيت أو علبة الدواء أو إيجار الخيمة أو كنزة لطفلها أو مشّاية لابنتها أو… أو…

أفهم الآن تماماً، بالفعل والتفصيل، كيف أننا نوصّف برامجنا لدى مفوّضيّة اللاجئين، بأنّها “منقذة للحياة”. قبل أن انضمّ إلى المفوّضيّة في في القسم الإعلامي وكمتحدّثة رسميّة، لم أكن أستوعب حقّاً معنى هذا التوصيف ورأيت بعض المغالاة تشوبه.

فهمت الآن ماذا تعنيه المساعدة النقدية الشهرية التي تصل إلى 55 ألف عائلة لاجئة. الفرق الذي قد تحدثه – الفرق ما بيت الحياة والموت يا صديقي – حين تسمح للعائلات تلك بتأمين الإحتياجات الأساسيّة من المأكل والدواء ودفع الإيجار.

وما بالكم حين أقول بأن قدرتنا على المساعدة المنتظمة تشمل فقط 33% من اللاجئين المسجّلين لدينا. بالتأكيد هناك المساعدة الشتويّة التي نعمل ليلاً ونهاراً على أن تسند العدد الأكبر من اللاجئين في فصل الشتاء، وتلك الطارئة الهادفة إلى التخفيف من وطأة الكورونا على مأكل ومشرب اللاجئين في ظلّ الإقفالا ت العامّة في البلاد وعدم استطاعة اللاجئين من الإبقاء على أعمالهم اليومية والموسمية. وصلت هذه الأخيرة إلى أكثر من 12 ألف عائلة إضافية.

أمّا وتبقى كلمة الفصل “المساعدات أقلّ بكثير من الإحتياجات”، وأرى كيف اننا نطلب التمويل بدون انقطاع لضمان استمراريةّ برامج المساعدات لدينا… عسى أن تحوّل كلٍّ من سهامٍ وهدى الـ “أو” إلى “واو”.

“والله يا ست دلال، عيب تغادري وما ضيّفناك شي…”

أدمى قلبي وشحّ الكلام. ولكنّي انحنيت تواضعاً أمام كرمٍ يصرخ بجوهر إنسانيّ محض.

زرت. استمعت. صوّرت وغادرت. ووجدتني أدعو بأن تكون الأيادي الكريمة كثيرة على قدر كرم هدى المبتسمة وسهام الخجولة.

دلال حرب

  المسؤولة الإعلامية  لدى مفوضية اللاجئين في لبنان